في موجة متصاعدة من الاحتجاجات، شهدت عدة مدن إيرانية، من الأهواز إلى طهران وأصفهان وشوش، تظاهرات واسعة نظّمها متقاعدو الضمان الاجتماعي للتعبير عن تدهور أوضاعهم المعيشية واحتجاجهم على السياسات الحكومية. تأتي هذه الاحتجاجات وسط شعارات لم تقتصر على المطالب المعيشية فحسب، بل حملت أيضًا طابعًا سياسيًا متزايدًا، مثل «يكفي تأجيج الحروب، موائدنا فارغة»، في إشارة إلى الاعتراض على التدخلات الإقليمية للنظام وما تحمله من تكاليف باهظة على حساب معيشة المواطنين. وتأتي هذه الأصوات في الوقت الذي أكّد فيه الولي الفقیة لنظام الايراني علي خامنئي مؤخرًا على أهمية استمرار تلك السياسات، متجاهلًا أثرها على أوضاع الشعب. هذه الشعارات تُظهر انتقال مطالب المتقاعدين من الجانب الاقتصادي إلى الدعوة للتغيير في الأولويات والسياسات التي أنهكت الطبقات المحرومة.
في 3 نوفمبر 2024، تجمّع متقاعدو الضمان الاجتماعي في مدينة الأهواز جنوب غرب إيران، مرددين شعارات قوية تعكس استيائهم من سياسات الحكومة. من بين الشعارات، (“شعارهم واحسیناه، وعملهم الكذب والسرقة”)، والذي يُعد اتهامًا واضحًا للحكومة باستغلال الشعارات الدينية لممارسة الفساد. كما طالب المحتجون بالإفراج عن العمال والمعلمين المعتقلين من خلال ترديد شعارات مثل (“يجب إطلاق سراح العامل المسجون”) و (“يجب إطلاق سراح المعلم المسجون”). وتوحي هذه الشعارات بأن حركة الاحتجاج تجاوزت مطالبها الاقتصادية التقليدية، واتجهت نحو بعد سياسي أعمق، مطالبًا بإجراء تغييرات جذرية.
وفي مدينة أصفهان، نظم متقاعدو صناعة الفولاذ احتجاجًا ورددوا شعار (“کفی وعودا، موائدنا فارغة”). يبرز هذا الشعار الأوضاع المالية الصعبة التي يواجهها المتقاعدون الذين، بالرغم من سنوات خدمتهم، يعانون من نقص القدرة على تأمين أساسيات المعيشة. ويعكس هذا الشعار حالة الإحباط المنتشرة في مختلف أنحاء البلاد من الوعود التي تطلقها السلطات دون أن تتحول إلى إصلاحات ملموسة. وشارك متقاعدو الفولاذ في أصفهان في احتجاج آخر أمام مبانٍ حكومية، مطالبين بمحاسبة الحكومة من خلال شعار (“كفى خيانة، يا برلمان، يا حكومة”).
في مدينة شوش، رغم سوء الأحوال الجوية والأمطار الغزيرة، تحدّى متقاعدو الضمان الاجتماعي الظروف للتعبير عن رسالتهم. رفعوا شعار (“يكفي تأجيج الحروب، موائدنا فارغة”)، معبرين عن اعتراضهم على السياسات التدخلية للحكومة في المنطقة. يأتي هذا الشعار بعد يوم واحد فقط من تأكيد الوليالفقیة علي خامنئي التزام إيران بسياساتها الإقليمية. ويظهر هذا الشعار رفض المتظاهرين لتحميلهم عبء هذه السياسات العسكرية وتكاليفها الباهظة، مفضلين إعطاء الأولوية لتحسين الظروف المعيشية الداخلية على التورط في النزاعات الإقليمية.
كما انضم الممرضون في مدينة يزد إلى موجة الاحتجاجات، حيث ارتدوا أشرطة سوداء كرمز لنضالهم، ونظموا اعتصامًا في مستشفى أفشار. واستشهد الممرضون في بيانهم بآيات من القرآن الكريم مثل «لَا تَرۡكَنُوٓاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ». وتهدف احتجاجاتهم إلى تسليط الضوء على حقوقهم القانونية التي يؤكدون أنها تُهدر بشكل ممنهج من قبل إدارات المستشفيات. وتأتي هذه الاحتجاجات وسط تقارير تشير إلى محاولات بعض المسؤولين عرقلة مطالب الممرضين، مما أثار انتقادات واسعة داخل مجتمع التمريض. وفي مستشفى “شهداء المحراب” في يزد، رفع العاملون في قطاع الرعاية الصحية شعارات مماثلة تتعلق بأجورهم ومزاياهم.
وفي العاصمة طهران، تجمع متقاعدو الضمان الاجتماعي أمام الفرع الثاني لمؤسسة الضمان الاجتماعي احتجاجًا على الوعود غير المنفذة وفشل السلطات في تلبية مطالبهم. كان شعارهم (“الاحتجاج شرف، والصمت مذلة”)، مما يعكس موقفًا متحديًا تجاه التجاهل المستمر لمطالبهم. وسلط المتقاعدون الضوء على التباين الصارخ بين خط الفقر، الذي يُقدر بـ 50 مليون ريال، ومعاشاتهم الضئيلة البالغة 12 مليون ريال، مما يتركهم دون مستوى الكفاف.
وفي احتجاج آخر أمام شركة كرمان موتور، عبر عدد من العملاء عن استيائهم من القضايا المتعلقة بتأخير تسليم السيارات، وعدم الاستجابة لشكاواهم، وعدم التزام الشركة بالوفاء بالتزاماتها التعاقدية. ومن خلال شعارات تتناول “عاصفة ارتفاع الأسعار” وانعدام الشفافية، عبّر المحتجون عن تذمر واسع تجاه ما وصفوه بسوء الإدارة وغياب الرقابة التنظيمية.
تشير هذه التظاهرات إلى تحول هام في نبرة وطبيعة الاحتجاجات العامة في إيران. فعادة ما كان المتقاعدون والعمال يرفعون شعارات تتعلق بمظالم اقتصادية، إلا أن الاحتجاجات الأخيرة تعكس طابعًا سياسيًا متزايدًا. فالشعارات المرفوعة في الأهواز للمطالبة بالإفراج عن العمال والمعلمين المسجونين، والشعارات المناهضة لإثارة الحرب في شوش، تظهر تزايد حالة الإحباط من أولويات الحكومة التي تركز على السياسات الإقليمية بدلًا من رفاهية المواطنين. ويشير المراقبون إلى أن هذا التحول يعكس توجهًا أكبر نحو الدعوات لتحقيق العدالة الاجتماعية والشفافية والمحاسبة.
وعلاوة على ذلك، سلطت الاحتجاجات الضوء على تدهور الأوضاع الاقتصادية للمتقاعدين والعمال في أنحاء إيران. ومع تزايد معدلات التضخم وتراجع قيمة العملة، يجد الكثير من الإيرانيين أنفسهم عاجزين عن تلبية احتياجاتهم الأساسية، حتى في الوقت الذي تؤكد فيه السلطات أن الاقتصاد تحت السيطرة.
تسلط احتجاجات المتقاعدين والمعلمين والعاملين في القطاع الصحي والعمال في إيران الضوء على تحول واضح في المشهد الاجتماعي في البلاد. فالمظالم التي بدأت بمطالب اقتصادية تزايدت لتشمل الدعوة إلى إصلاحات جذرية ومحاسبة سياسية. ومع تزايد هذه الأصوات، تجد الحكومة نفسها تحت ضغط متزايد لمعالجة القضايا الاقتصادية والمطالب السياسية المتنامية للشعب الذي يشعر بخيبة أمل كبيرة من الأوضاع الحالية. تعكس أهمية هذه الاحتجاجات وحدتها بين مختلف الفئات، ورسائلها التي تحمل طابعًا من الإلحاح قد يصبح من الصعب على القادة الإيرانيين تجاهله.